السُّؤال: إذا مات الشَّخصُ,وهو يعتقدُ أنَّ الرَّسُولَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-ليسَ ببشرٍ,وأنَّهُ يعلمُ الغيبَ,وأنَّ التوسلَ بالأولياءِ والأمواتِ والأحياءِ قُربةٌ إلى اللهِ–عَزَّ وجَلَّ-,فهل يدخلُ النَّارَ, ويعتبرُ مُشْرِكاً؟عِلْماً أنه لا يعلمُ غيرَ هذا الاعتقادِ,وأنه عاشَ في منطقةٍ علماؤها وأهلُها كلُّهم يُقرُّون بذلك،فَمَا حُكْمُهُ،وما حُكْمُ التَّصدق عنه والإحسانِ بعد موتِهِ؟.
الجَوَابُ:
مَنْ مات على هذا الاعتقادِ بأنْ يعتقدَ أنَّ محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ليس ببشرٍ,أي ليس من بني آدمَ,أو يعتقدَ أنه يعلم الغيبَ,فهذا اعتقادٌ كفريٌّ يُعتبَرُ صاحِبُهُ كافراً كُفراً أكبر،وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيثُ به,أو ينذرُ له أو لغيرِهِ من الأنبياء والصالحينَ,أو الجن أو الملائكة أو الأصنام؛لأنَّ هذا من جنس عملِ المشركين الأولين كأبي جهلٍ وأشباهه،وهو شِرْكٌ أكبرُ،ويُسمِّي بعضُ الناسِ هذا النوعَ من الشِّركِ توسلاً،وهو غير الشِّركِ الأكبرِ.وهناك نوعٌ ثانٍ من التوسل ليس من الشِّركِ,بل هو مِنَ البِدَعِ ووسائل الشِّرْكِ،وهو التوسلُ بجاه الأنبياءِ والصالحينَ,أو بحقِّ الأنبياءِ والصَّالحينَ أو بذواتِهم ، فالواجبُ الحذرُ من النَّوعينِ جميعاً. ومَن مات على النَّوعِ الأولِ لا يُغسَّلُ ولا يُصلَّي عليه ولا يُدفَنُ في مقابرِ المسلمينَ،ولا يُدعى له ولا يُتصدَّقُ عنه لقولِ اللهِ–عَزَّ وجَلَّ-:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة.
وأما التوسلُ بأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وتوحيدِهِ والإيمانِ به فهو توسلٌ مشروعٌ,ومن أسبابِ الإجابةِ؛لقولِ اللهِ–عَزَّ وجَلَّ-:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (180) سورة الأعراف.
ولما ثبتَ عن النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أنه سمع مَن يدعو,ويقول:" اللهم إني أسألُك بأنك أنتَ اللهُ لا إله إلا أنت الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٌ)، فقال : " لقد سأل الله باسمِهِ الذي إذا سُئِلَ به أعطى,وإذا دُعِيَ به أجابَ".
وهكذا التوسلُ بالأعمالِ الصَّالحةِ من برِّ الوالدينِ وأداءِ الأمانةِ والعِفَّةِ عمَّا حَرَّمَ اللهُ,ونحو ذلك، كما ورد ذلك في حديثِ أصحابِ الغار المخرَّجِ في الصَّحيحينِ ،وهم ثلاثة، آواهم المبيتُ والمطرُ إلى غارٍ,فلمَّا دخلوا فيه,انحدرت عليهم صخرةٌ من أعلى جبلٍ فسدت الغار عليهم فلم يستطيعوا الخروج,فقالوا فيما بينهم: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالحِ أعمالِكم،فتوجهوا إلى اللهِ-سبحانه-فسألوه ببعض أعمالهم الطيبة,فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي أبوانِ شيخانِ كبيرانِ,وكنت لا أغبقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً, وإني ذات ليلةٍ نأى بي طَلَبُ الشَّجرِ,فلمَّا رُحْتُ عليهما بغبوقهما,وجدتهما نائمينِ,فلم أوقظهما,وكرهت أن أسقيَ قبلهما أهلاً ومالاً،فلم أزلْ على ذلك حتى طلعَ الفجرُ, فاستيقظا وشَرِبا غبوقَهما،اللهم إنْ كنتَ تعلمُ أنِّي فعلتُ هذا ابتغاءَ وجهِكَ,فافرج عنا ما نحن فيه،فانفرجت الصخرةُ شيئاً لا يستطيعون الخروجَ منه.أمَّا الثاني فتوسَّلَ بعِفَّتِهِ عن الزِّنا حيث كانتْ له ابنةُ عمٍّ يحبها كثيراً,وأرادها في نفسِها,فأبتْ عليه ثم ألمت بها حاجةٌ شديدةٌ, فجاءت إليه تطلبُ منه المساعدةَ,فأبى عليها إلا أنْ تمكنه من نفسِها,فوافقتْ على هذا من أجلِ حاجتِها,فأعطاها مائةَ دينارٍ وعشرين دينار,فلمَّا جلس بين رجليها,قالتْ له : يا عبدَ اللهِ,اتَّق الله,ولا تَفُضَّ الخاتمَ إلا بحقِّهِ، فخاف من الله حينئذٍ، وقام عنها وترك لها الذهبَ خوفاً من الله–عَزَّ وجَلَّ-,فقال: اللهم إنْ كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ هذا ابتغاءَ وجهِكَ فافرج عنَّا ما نحن فيه،فانفرجت الصخرةُ شيئاً لا يستطيعون الخروجَ منه.
ثم قال الثالثُ: اللهم إنِّي استأجرتُ أُجراء,فأعطيتُ كُلَّ واحدٍ أجرتَهُ إلا واحداً ترك أجرتَهُ فنمَّيتها له,حتى بلغت إبلاً وبقراً وغنماً ورقيقاً.فجاء يطلبُ أجرتَهُ,فقلتُ له:كل هذا من أجرتك,يعني الإبلَ والبقرَ والغنمَ والرقيقَ.فقال: يا عبدَ اللهِ,اتق الله ولا تستهزىءْ بي ، فقلتُ له: إني لا أستهزئُ بك,إنه كله مالك,فساقه كُلَّهُ.اللهم إنْ كنتَ تعلمُ أنِّي فعلتُ هذا ابتغاءَ وجهِكَ فافرجْ عنَّا ما نحنُ فيه،فانفرجتِ الصخرةُ فخرجُوا جميعاً يمشونَ.
وهذا يدلُّ على أنَّ التوسلَ بالأعمالِ الصَّالحةِ الطيبةِ أمرٌ مشروعٌ،وأنَّ الله-جَلَّ وعَلَا- يُفرِّجُ به الكرباتِ,كما جَرَى لهؤلاءِ الثلاثةِ.أمَّا التوسلُ بجاه فُلانٍ وبحقِّ فُلانٍ أو بذاتِ فُلانٍ,فهذا غيرُ مشروعٍ،بل هُو مِنَ البِدَعِ كما تقدَّمَ,واللهُ وليُّ التَّوفيقِ.
راجع:كتاب "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" للشيخ عبد العزيز بن باز (5/ 319- 321).